فصل: ذكر الحرب بين المسلمين والفرنج بجيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر وصول السلطان إلى بغداد:

في هذه السنة، في شهر رمضان، وصل السلطان إلى بغداد، وهي المرة الثانية، ونزل بدار المملكة، ونزل أصحابه متفرقين، ووصل إليه أخوه تاج الدولة تتش، وقسيم الدولة آقسنقر، صاحب حلب، وغيرهما من زعماء الأطراف، وعمل الميلاد ببغداد، وتأنقوا في عمله، فذكر الناس أنهم لم يروا ببغداد مثله أبداً، وأكثر الشعراء وصف تلك الليلة، فممن قال المطرز:
وكل نار على العشاق مضرمة ** من نار قلبي، أو من ليلة السذق

نار تجلت بها الظلماء، واشتبهت ** بسدفة الليل فيه غرة الفلق

وزارت الشمس فيها البدر واصطلحا ** على الكواكب بعد الغيظ والحنق

مدت على الأرض بسطاً من جواهرها ** ما بين مجتمع مار ومفترق

مثل المصابيح إلا أنها نزلت ** من السماء بلا رجم ولا حرق

أعجب بنار ورضوان يسعرها ** ومالك قائم منها على فرق

في مجلس ضحكت روض الجنان له ** لما جلا ثغره عن واضح يقق

وللشموع عيون كلما نظرت ** تظلمت من يديها أنجم الغسق

من كل مرهفة الأعطاف كالغصن ** المياد، لكنه عار من الورق

إني لأعجب منها، وهي وادعة ** تبكي، وعيشتها من ضربة العنق

وفي هذه المرة أمر بعمارة جامع السلطان، فابتديء في عمارته في المحرم سنة خمس وثمانين وأربعمائة، وعمل قبلته بهرام منجمه، وجماعة من أصحاب الرصد، وابتدأ بعده نظام الملك، وتاج الملوك، والأمراء الكبار بعمل دور لهم يسكنونها إذا قدموا بغداد، فلم تطل مدتهم بعدها، وتفرق شملهم بالموت، والقتل، وغير ذلك في باقي سنتهم، ولم تغن عنهم عساكرهم وما جمعوا شيئاً، فسبحان الدائم الذي لا يزول أمره.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة وصل ابن أبي هاشم من مكة مستغيثاً من التركمان.
وفي آخرها مرض نظام الملك ببغداد، فعالج نفسه بالصدقة، فكان يجتمع بمدرسته من الفقراء والمساكين من لا يحصى، وتصدق عنه الأعيان، والأمراء من عسكر السلطان، فعوفي، وأرسل له الخليفة خلعاً نفيسة.
وفيها، في تاسع شعبان، كان بالشام، وكثير من البلاد، زلازل كثيرة، وكان أكثرها بالشام، ففارق الناس مساكنهم، وانهدم بأنطاكية كثير من المساكن، وهلك تحتها عالم كثير، وخرب من سورها تسعون برجاً، فأمر السلطان ملكشاه بعمارتها.
وفيها، في شوال، توفي أبو طاهر عبد الرحمن بن محمد بن علك الفقيه الشافعي، وهو من رؤساء الفقهاء الشافعية، وهو الذي تقدم ذكره في فتح سمرقند، ومشى أرباب الدولة السلطانية كلهم في جنازته، إلا نظام الملك، فإنه اعتذر بعلو السن، وأكثر البكاء عليه، ودفن عند الشيخ أبي إسحاق بباب ابرز، وزار السلطان قبره.
وتفوي محمد بن عبد الله بن الحسين أبو بكر الناصح الحنفي، قاضي الري، وكان من أعيان الفقهاء الحنفية يميل إلى الاعتزال، وكان موته في رجب.
وفيها في شعبان توفي أبو الحسن علي بن الحسين بن طاووس المقري بمدينة صور. ثم دخلت:

.سنة خمس وثمانين وأربعمائة:

.ذكر الحرب بين المسلمين والفرنج بجيان:

في هذه السنة جمع أذفونش عساكره، وجموعه، وغزا بلاد جيان من الأندلس، فلقيه المسلمون وقاتلوه، واشتدت الحرب، فكانت الهزيمة أولاً على المسلمين، إن الله تعالى رد لهم الكرة على الفرنج، فهزموهم، وأكثروا القتل فيهم، ولم ينج إلا الأذفونش في نفر يسير، وكانت هذه الوقعة من أشهر الوقائع، بعد الزلاقة، وأكثر الشعراء ذكرها في أشعارهم.

.ذكر استيلاء تتش على حمص وغيرها من ساحل الشام:

لما كان السلطان ببغداد قدم إليه أخوه تاج الدولة تتش من دمشق، وقسيم الدولة آقسنقر من حلب، وبوزان من الرها، فلما أذن لهم السلطان في العود إلى بلادهم أمر قسيم الدولة وبوزان أن يسيرا مع عساكرهما في خدمة أخيه تاج الدولة، حتى يستولي على ما للخليفة المستنصر العلوي، بساحل الشام، من البلاد، ويسير، وهم معه، إلى مصر ليملكها.
فساروا أجمعون إلى الشام، ونزل على حمص، وبها ابن ملاعب صاحبها، وكان الضرر به وبأولاده عظيماً على المسلمين، فحصروا البلد، وضيقوا على من به، فملكه تاج الدولة، وأخذ ابن ملاعب وولديه، وسار إلى قلعة عرقة فملكها عنوة، وسار إلى قلعة أفامية فملكها أيضاً، وكان بها خادم للمصري، فنزل بالأمان فأمنه، ثم سار إلى طرابلس فنازلها، فرأى صاحبها جلال الملك ابن عمار جيشاً لا يدفع إلا بحيلة، فأرسل إلى الأمراء الذين مع تاج الدولة، وأطمعهم ليصلحوا حاله، فلم ير فيهم مطمعاً.
وكان مع قسيم الدولة آقسنقر وزير له اسمه زرين كمر، فراسله ابن عمار فرأى عنده ليناً، فأتحفه وأعطاه، فسعى مع صاحبها قسيم الدولة في إصلاح حاله ليدفع عنه، وحمل له ثلاثين ألف دينار، وتحفاً بمثلها، وعرض عليه المناشير التي بيده من السلطان بالبلد، والتقدم إلى النواب بتلك البلاد بمساعدته، والشد بيده، فأغلظ له تاج الدولة، وقال: هل أنت تابع لي؟ فقال آقسنقر: أنا أتابعك إلا في معصية السلطان، ورحل من الغد عن موضعه، فاضطر تاج الدولة إلى الرحيل، فرحل غضبان، وعاد بوزان أيضاً إلى بلاده، فانتقض هذا الأمر.

.ذكر ملك السلطان اليمن:

وكان ممن حضر أيضاً عند السلطان ببغداد جبق أمير التركمان، وهو صاحب قرميسين وغيرها، فأمره السلطان أن يسير هو ومعه جماعة من أمراء السلطان ذكرهم، إلى الحجاز واليمن، ويكون أمرهم إلى سعد الدولة كوهرائين، ليفتحوا البلاد هناك، فاستعمل عليهم سعد الدولة أميراً اسمه ترشك، فساروا حتى وردوا اليمن، فاستولوا عليها، وأساءوا السيرة في أهلها، ولم يتركوا فاحشة ولا سيئة إلا ارتكبوها، وملكوا عدن، وظهر على ترشك الجدري، فتوفي في سابع يوم من وصوله إليها، وكان عمره سبعين سنة، فعاد أصحابه إلى بغداد، وحملوه، فدفنوه عند قبر أبي حنيفة، رحمة الله عليه.

.ذكر مقتل نظام الملك:

في هذه السنة، عاشر رمضان، قتل نظام الملك أبو علي الحسن بن علي بن إسحاق الوزير بالقرب من نهاوند، وكان هو والسلطان في أصبهان، وقد عاد إلى بغداد، فلما كان بهذا المكان، بعد أن فرغ من إفطاره، وخرج في محفته إلى خيمة حرمه، أتاه صبي ديلمي من الباطنية، في صورة مستميح، أو مستغيث، فضربه بسكين كانت معه، فقضى عليه وهرب، فعثر بطنب خيمة، فأدركوه فقتلوه، وركب السلطان إلى خيمه، فسكن عسكره وأصحابه.
وبقي وزير السلطان ثلاثين سنة سوى ما وزر للسلطان ألب أرسلان، صاحب خراسان، أيام عمه طغرلبك، قبل أن يتولى السلطنة، وكان علت سنه، فإنه كان مولده سنة ثمان وأربعمائة.
وكان سبب قتله أن عثمان بن جمال الملك بن نظام الملك كان قد ولاه جده نظام الملك رئاسة مرو، وأرسل السلطان إليها شحنة يقال له قودن، وهو من أكبر مماليكه، ومن أعظم الأمراء في دولته، فجرى بينه وبين عثمان منازعة في شيء، فحملت عثمان حداثة سنه، وتمكنه، وطمعه بجده، على أن قبض عليه، وأخرق به، ثم أطلقه، فقصد السلطان مستغيثاً شاكياً، فأرسل السلطان إلى نظام الملك رسالة مع تاج الدولة ومجد الملك البلاساني وغيرهما من أرباب دولته يقول له: إن كنت شريكي في الملك، ويدك مع يدي في السلطنة، فلذلك حكم، وإن كنت نائبي، وبحكمي، فيجب أن تلزم حد التبعية والنيابة، وهؤلاء أولادك قد استولى كل واحد منهم على كورة عظيمة، وولي ولاية كبيرة، ولم يقنعهم ذلك، حتى تجاوزوا أمر السياسة وطمعوا إلى أن فعلوا كذا وكذا، وأطال القول، وأرسل معهم الأمير يلبرد، وكان من خواصه وثقاته، وقال له: تعرفني ما يقول، فربما كتم هؤلاء شيئاً.
فحضروا عند نظام الملك وأوردوا عليه الرسالة، فقال لهم: قولوا للسلطان إن كنت ما علمت أني شريكك في الملك فاعلم، فإنك ما نلت هذا الأمر إلا بتدبيري ورأيي، أما يذكر حين قتل أبوه فقمت بتدبير أمره، وقمعت الخوارج عليه من أهله، وغيرهم، منهم: فلان وفلان، وذكر جماعة من خرج عليه، وهو ذلك الوقت يتمسك بي ويلزمني، ولا يخالفني، فلما قدت الأمور إليه، وجمعت الكلمة عليه، وفتحت له الأمصار القريبة والبعيدة، وأطاعه القاصي والداني، أقبل يتجنى لي الذنوب، ويسمع في السعايات؟ قولوا له عني: إن ثبات تلك القلنسوة معذوق بهذه الدواة، وإن اتفاقهما رباط كل رغيبة وسبب كل غنيمة، ومتى أطبقت هذه زالت تلك، فإن عزم على تغيير فليتزود للاحتياط قبل وقوعه، وليأخذ الحذر من الحادث أمام طروقه، وأطال فيما هذا سبيله، ثم قال لهم: قولوا للسلطان عني مهما أردتم، فقد أهمني ما لحقني من توبيخه وفت في عضدي.
فلما خرجوا من عنده اتفقوا على كتمان ما جرى عن السلطان، وأن يقولوا له ما مضمونه العبودية والتنصل، ومضوا إلى منازلهم، وكان الليل قد انتصف، ومضى يلبرد إلى السلطان فأعلمه ما جرى، وبكر الجماعة إلى السلطان، وهو ينتظرهم، فقالوا له من الاعتذار والعبودية ما كانوا اتفقوا عليه، فقال لهم السلطان: إنه لم يقل هذا، وإنما قال كيت وكيت، فأشاروا حينئذ بكتمان ذلك رعاية لحق نظام الملك، وسابقته، فوقع التدبير عليه، حتى تم عليه من القتل ما تم. ومات السلطان بعده بخمسة وثلاثين يوماً، وانحلت الدولة، ووقع السيف، وكان قول نظام الملك شبه الكرامة له، وأكثر الشعراء مراثيه، فمن جيد ما قيل فيه قول شبل الدولة مقاتل بن عطية:
كان الوزير نظام الملك لؤلؤة ** يتيمة صاغها الرحمن من شرف

عزت، فلم تعرف الأيام قيمتها ** فردها، غيرة منه، إلى الصدف

ورأى بعضهم نظام الملك بعد قتله في المنام، فسأله عن حاله، فقال: كان يعرض علي جميع عملي لولا الحديدة التي أصبت بها، يعني القتل.

.ذكر ابتداء حاله وشيء من أخباره:

أما ابتداء حاله، فكان من أبناء الدهاقين بطوس، فزال ما كان لأبيه من مال، وملك، وتوفيت أمه وهو رضيع، فكان أبوه يطوف به على المرضعات فيرضعنه حسبة، حتى شب، وتعلم العربية، وسر الله فيه يدعوه إلى علو الهمة، والاشتغال بالعلم، فتفقه، وصار فاضلاً، وسمع الحديث الكثير، ثم اشتغل بالأعمال السلطانية، ولم يزل الدهر يعلو به ويخفض حضراً وسفراً.
وكان يطوف بلاد خراسان، ووصل إلى غزنة في صحبة بعض المتصرفين، ثم لزم أبا علي بن شاذان متولي الأمور ببلخ لداود والد السلطان ألب أرسلان، فحسنت حاله معه، وظهرت كفايته وأمانته، وصار معروفاً عندهم بذلك، فلما حضرت أبا علي بن شاذان الوفاة أوصى الملك ألب أرسلان به، وعرفه حاله، فولاه شغله، ثم صار وزيراً له إلى أن ولي السلطنة بعد عمه طغرلبك، واستمر على الوزارة لأنه ظهرت منه كفاية عظيمة، وآراء سديدة قادت السلطنة إلى ألب أرسلان، فلما توفي ألب أرسلان قام بأمر ابنه ملكشاه، وقد تقدم ذكر هذه الجمل مستوفى مشروحاً.
وقيل إن ابتداء أمره أنه كان يكتب للأمير تاجر، صاحب بلخ، وكان الأمير يصادره في رأس كل سنة، ويأخذ ما معه، ويقول له: قد سمنت يا حسن! ويدفع إليه فرساً ومقرعة ويقول: هذا يكفيك، فلما طال ذلك عليه أخفى ولديه فخر الملك، ومؤيد الملك، وهرب إلى جغري بك داود، والد ألب أرسلان، فوقف فرسه في الطريق، فقال: اللهم إني أسألك فرساً تخلصني عليه! فسار غير بعيد، فلقيه تركماني وتحته فرس جواد، فقال لنظام الملك: انزل عن فرسك، فنزل عنه، فأخذه التركماني وأعطاه فرسه، فركبه وقال له: لا تنسني يا حسن. قال نظام الملك: فقويت نفسي بذلك، وعملت أنه ابتداء سعادة. فسار نظام الملك إلى مرو، ودخل على داود، فلما رآه أخذ بيده، وسلمه إلى والده ألب أرسلان، وقال له: هذا حسن الطوسي، فتسلمه، واتخذه والداً ولا تخالفه.
وكان الأمير تاجر لما سمع بهرب نظام الملك سار في أثره إلى مرو، فقال لداود: هذا كاتبي ونائبي قد أخذ أموالي، فقال له داود: حديثك مع محمد، يعني ألب أرسلان، فكان اسمه محمد، فلم يتجاسر تاجر على خطابه، فتركه وعاد.
وأما أخباره، فإنه كان عالماً، ديناً، جواداً، عادلاً، حليماً، كثير الصفح عن المذنبين طويل الصمت، كان مجلسه عامراً بالقراء، والفقهاء، وأئمة المسلمين، وأهل الخير والصلاح، أمر ببناء المدارس في سائر الأمصار والبلاد، وأجرى لها الجرايات العظيمة، وأملى الحديث بالبلاد: ببغداد وخراسان وغيرهما، وكان يقول: إني لست من أهل هذا الشأن، لما تولاه، ولكني أحب أن أجعل نفسي على قطار نقلة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان إذا سمع المؤذن أمسك عن كل ما هو فيه وتجنبه، فإذا فرغ لا يبدأ بشيء قبل الصلاة، وكان، إذا غفل المؤذن ودخل الوقت يأمره بالأذان، وهذا غاية حال المنقطعين إلى العبادة في حفظ الأوقات، ولزوم الصلوات.
وأسقط المكوس والضرائب، وأزال لعن الأشعرية من المنابر، وكان الوزير عميد الملك الكندري قد حسن للسلطان طغرلبك التقدم بلعن الرافضة، فأمره بذلك، فأضاف إليهم الأشعرية، ولعن الجميع، فلهذا فارق كثير من الأئمة بلادهم، مثل إمام الحرمين، وأبي القاسم القشيري، وغيرهما، فلما ولي ألب أرسلان السلطنة أسقط نظام الملك ذلك جميعه، وأعاد العلماء إلى أوطانهم.
وكان نظام الملك إذا دخل عليه الإمام أبو القاسم القشيري، والإمام أبو المعالي الجويني، يقوم لهما، ويجلس في مسنده، كما هو، وإذا دخل أبو علي الفارمذي يقوم إليه، ويجلسه في مكانه، ويجلس هو بين يديه، فقيل له في ذلك، فقال: إن هذين وأمثالهما إذ دخلوا علي يقولون لي: أنت كذا وكذا، يثنون علي بما ليس في، فيزيدني كلامهم عجباً وتيهاً، وهذا الشيخ يذكر لي عيوب نفسي، وما أنا فيه من الظلم، فتنكسر نفسي لذلك، وأرجع عن كثير مما أنا فيه.
وقال نظام الملك: كنت أتمنى أن يكون لي قرية خالصة، ومسجد أتفرد فيه لعبادة ربي، ثم بعد ذلك تمنيت أن يكون لي قطعة أرض أتقوت بريعها، ومسجد أعبد الله فيه، وأما الآن فأنا أتمنى أن يكون لي رغيف كل يوم، ومسجد أعبد الله فيه.
وقيل: كان ليلة يأكل الطعام، وبجانبه أخوه أبو القاسم، وبالجانب الآخر عميد خراسان، وإلى جانب العميد إنسان فقير، مقطوع اليد، فنظر نظام الملك، فرأى العميد يتجنب الأكل مع المقطوع، فأمره بالانتقال إلى الجانب الآخر، وقرب المقطوع إليه فأكل معه.
وكانت عادته أن يحضر الفقراء طعامه، ويقربهم إليه، ويدنيهم. وأخباره مشهورة كثيرة، قد جمعت لها المجاميع السائرة في البلاد.

.ذكر وفاة السلطان وذكر بعض سيرته:

سار السلطان ملكشاه، بعد قتل نظام الملك، إلى بغداد، ودخلها في الرابع والعشرين من شهر رمضان، ولقيه وزير الخليفة عميد الدولة بن جهير، وظهرت من تاج الملك كفاية عظيمة، وكان السلطان قد أمر أن تفصل خلع الوزارة لتاج الملك، وكان هو الذي سعى بنظام الملك، فلما فرغ من الخلع، ولم يبق غير لبسها والجلوس في الدست، اتفق أن السلطان خرج إلى الصيد، وعاد ثالث شوال مريضاً، وأنشب الموت أظفاره فيه، ولم يمنع عنه سعة ملكه، وكثرة عساكره.
وكان سبب مرضه أنه أكل لحم صيد فحم وافتصد، ولم يستوف إخراج الدم، فثقل مرضه، وكانت حمى محرقة، فتوفي ليلة الجمعة، النصف من شوال.
ولما ثقل نقل أرباب دولته أموالهم إلى حريم دار الخلافة، ولما توفي سترت زوجته تركان خاتون المعروفة بخاتون الجلالية موته وكتمته، وأعادت جعفر ابن الخليفة من ابنة السلطان إلى أبيه المقتدي بأمر الله، وسارت من بغداد والسلطان معها محمولاً، وبذلت الأموال للأمراء سراً، واستحلفتهم لابنها محمود، وكان تاج الملك يتولى ذلك لها، وأرسلت قوام الدولة كربوقا الذي صار صاحب الموصل إلى أصبهان بخاتم السلطان، فاستنزل مستحفظ القلعة، وتسلمها، وأظهر أن السلطان أمره بذلك، ولم يسمع بسلطان مثله لم يصل عليه أحد، ولم يلطم عليه وجه.
وكان مولده سنة سبع وأربعين وأربعمائة، وكان من أحسن الناس صورة ومعنى، وخطب له من حدود الصين إلى آخر الشام، ومن أقاصي بلاد الإسلام في الشمال إلى آخر بلاد اليمن، وحمل إليه ملوك الروم الجزية، ولم يفته مطلب، وانقضت أيامه على أمن عام، وسكون شامل، وعدل مطرد.
ومن أفعاله أنه لما خرج عليه أخوه تكش بخراسان اجتاز بمشهد علي بن موسى الرضا بطوس، فزاره، فلما خرج قال لنظام الملك: بأي شيء دعوت؟ قال: دعوت الله أن ينصرك، فقال: أما أنا فلم أدع بهذا بل قلت: اللهم انصر أصلحنا للمسلمين، وأنفعنا للرعية.
وحكي عنه أن سوادياً لقيه وهو يبكي، فاستغاث به، وقال: كنت ابتعت بطيخاً بدريهمات لا أملك سواها، فغلبني عليه ثلاثة نفر من الأتراك، فأخذوه مني. فقال السلطان له: اقعد! ثم أحضر فراشاً وقال: قد اشتهيت بطيخاً، وكان ذلك عند أول استوائه، وأمره بطلبه من العسكر، فغاب ثم عاد ومعه البطيخ، فأمره بإحضار من وجده عنده، فأحضره، فسأله السلطان من أين له ذلك البطيخ؟ فقال غلماني جاؤوني به، فأمر أن يجيء بهم إليه، فمضى، وأمرهم بالهرب، وعاد فقال: لم أجدهم، فقال للسوادي: خذ مملوكي هذا فقد وهبته لك عوضاً عن بطيخك، ويحضر الذين أخذوه، والله لئن أطلقته لأضربن عنقك. فأخذه السوادي، فاشترى الغلام نفسه منه بثلاثمائة دينار، فعاد السوادي إلى الس، وقال: قد بعته نفسه بثلاثمائة دينار، فقال: أرضيت بذلك؟ قال: نعم! قال: امض مصاحباً.
وقال عبد السميع بن داود العباسي: شاهدت ملكشاه وقد أتاه رجلان من أرض العراق السفلى، من قرية الحدادية، يعرفان بابني غزال، فلقياه، فوقف لهما، فقالا: إن مقطعنا الأمير خماراتكين قد صادرنا بألف وستمائة دينار، وقد كسر ثنيتي أحدنا، وأراهما الس، وقد قصدناك لتقتص لنا منه، فإن أخذت بحقنا كما أوجب الله عليك، وإلا فالله يحكم بيننا.
قال فرأيت السلطان وقد نزل عن دابته وقال: ليمسك كل واحد منكما بطرف كمي، واسحباني إلى خواجه حسن، يعني نظام الملك، فامتنعا من ذلك، واعتذرا، وأقسم عليهما إلا فعلا، فأخذ كل واحد منهما بكم من كميه ومشى معهما إلى نظام الملك، فبلغه الخبر، فخرج مسرعاً فلقيه وقبل الأرض، وقال: يا سلطان العالم! ما حملك على هذا؟ فقال: كيف يكون حالي غداً عند الله إذا طولبت بحقوق المسلمين، وقد قلدتك هذا الأمر لتكفيني مثل هذا الموقف، فإن نال الرعية أذى فأنت المطالب، فانظر لي ولنفسك.
فقبل الأرض، ومشى في خدمته، وعاد من وقته، وكتب بعزل الأمير خمارتكين عن إقطاعه، ورد المال عليهما، وأعطاهما مائة دينار من عنده، وأمرهما بإثبات البينة أنه قلع ثنيتيه ليقلع ثنيتيه عوضهما، فرضيا وانصرفا.
وقيل إنه ورد بغداد ثلاث دفعات، فخافه الناس من غلاء الأسعار، وتعدي الجند، فكانت الأسعار أرخص منها قبل قدومه، وكان الناس يخترقون عساكره ليلاً ونهاراً، فلا يخافون أحداً، ولم يتعد عليهم أحد، وأسقط المكوس والمؤن من جميع البلاد، وعمر الطرق، والقناطر، والربط التي في المفاوز، وحفر الأنهار الخراب، وعمر الجامع ببغداد، وعمل المصانع بطريق مكة، وبنى البلد بأصبهان، وبنى منارة القرون بالسبيعي بطريق مكة، وبنى مثلها بما وراء النهر، واصطاد مرة صيداً كثيراً، فأمره بعده، فكان عشرة آلاف رأس، فأمر بصدقة عشرة آلاف دينار، وقال: إنني خائف من الله تعالى كيف أزهقت أرواح هذه الحيوانات بغير ضرورة ولا مأكلة، وفرق من الثياب والأموال بين أصحابه ما لا يحصى، وصار بعد ذلك كلما صاد شيئاً تصدق بعدده دنانير، وهذا فعل من يحاسب نفسه على حركاته وسكناته، وقد أكثر الشعراء مراثيه أيضاً.
وقيل إن بعض أمراء السلطان كان نازلاً بهراة مع بعض العلماء اسمه عبد الرحمن في داره، فقال يوماً ذلك الأمير للسلطان، وهو سكران: إن عبد الرحمن يشرب الخمر، ويعبد الأصنام من دون الله تعالى، ويحلل الحرام، فلم يجبه ملكشاه، فلما كان الغد صحا ذلك الأمير، فأخذ السلطان السيف، وقال له: اصدقني عن فلان، وإلا قتلتك! فطلب منه الأمان، فأمنه، فقال: إن عبد الرحمن له دار حسناء، وزوجة جميلة، فأردت أن تقتله فأفوز بداره وزوجته، فأبعده السلطان، وشكر الله تعالى على التوقف عن قبول سعايته، وتصدق بأموال جليلة المقدار.

.ذكر ملك ابنه الملك محمود وما كان من حال ابنه الأكبر بركيارق إلى أن ملك:

لما مات السلطان ملكشاه كتمت زوجته تركان خاتون موته، كما ذكرناه، وأرسلت إلى الأمراء سراً فأرضتهم، واستحلفتهم لولدها محمود، وعمره أربع سنين وشهور، وأرسلت إلى الخليفة المقتدي في الخطبة لولدها أيضاً، فأجابها، وشرط أن يكون اسم السلطنة لولدها، والخطبة له، ويكون المدبر لزعامة الجيوش، ورعاية البلد، هو الأمير أنر، ويصدر عن رأي تاج الملك، ويكون ترتيب العمال، وجباية الأموال إلى تاج الملك أيضاً، وكان تاج الملك هو الذي يدبر الأمر بين يدي خاتون.
فلما جاءت رسالة الخليفة إلى خاتون بذلك امتنعت من قبوله، فقيل لها: إن ولدك صغير، ولا يجيز الشرع ولايته، وكان المخاطب لها في ذلك الغزالي، فأذعنت له، وأجابت إليه، فخطب لولدها، ولقب ناصر الدنيا والدين، وكانت الخطبة يوم الجمعة الثاني والعشرين من شوال من السنة، وخطب له بالحرمين الشريفين.
ولما مات السلطان ملكشاه أرسلت تركان خاتون إلى أصبهان في القبض على بركيارق ابن السلطان، وهو أكبر أولاده، خافته أن ينازع ولدها في السلطنة، فقبض عليه، فلما ظهر موت ملكشاه وثب المماليك النظامية على سلاح كان لنظام الملك بأصبهان، فأخذوه وثاروا في البلد، وأخرجوا بركيارق من الحبس، وخطبوا له بأصبهان وملكوه، وكانت والدة بركيارق زبيدة ابنة ياقوتي بن داود، وهي ابنة عم ملكشاه، خائفة على ولدها من خاتون أم محمود، فأتاها الفرج بالمماليك النظامية.
وسارت تركان خاتون من بغداد إلى أصبهان، فطالب العسكر تاج الملك بالأموال، فوعدهم، فلما وصلوا إلى قلعة برجين صعد إليها لينزل الأموال منها، فلما استقر فيها عصى على خاتون، ولم ينزل خوفاً من العسكر، فساروا عنه، ونهبوا خزائنه، فلم يجدوا بها شيئاً، فإنه كان قد علم ما جرى، فاستظهر وأخفاه.
ولما وصلت تركان خاتون إلى أصبهان لحقها تاج الملك، واعتذر بأن مستحفظ القلعة حبسه، وأنه هرب منه إليها، فقبلت عذره.
وأما بركيارق فإنه لما قاربت خاتون وابنها محمود أصبهان خرج منها هو ومن معه من النظامية، وساروا نحو الري، فلقيهم أرغش النظامي في عساكره، ومعه جماعة من الأمراء، وصاروا يداً واحدة، وإنما حمل النظامية على الميل إلى بركيارق كراهتهم لتاج الملك لأنه عدو نظام الملك، والمتهم بقتله، فلما اجتمعوا حصروا قلعة طبرك وأخذوها عنوة، فسيرت خاتون العساكر إلى قتال بركيارق، فالتقى العسكران بالقرب من بروجرد، فانحاز جماعة من الأمراء الذين في عسكر خاتون إلى بركيارق، منهم: الأمير يلبرد، وكمشتكين الجاندار، وغيرهما، فقوي بهم، وجرت الحرب بينهم أواخر ذي الحجة، واشتد القتال، فانهزم عسكر خاتون وعادوا إلى أصبهان، وسار بركيارق في أثرهم فحصرهم بأصبهان.